لست من هواة ولا من تلاميذ مدرسة
التلفيق ..
ولا من محترفي الشعوذة التي تصنع من
القنبلة غصن زيتون ..
ومن الأفعى حمامة سلام .. ومن البخور
ضباب حضور لآلهة وهمية
التناقض الذي يلد تطوراً .. أقدره ..
والصراع الذي ينبت ثورة إصلاحية ..
أحترمه ..
والجدل الذي لا يوئده القمع .. أرسخه
عراك العقل والإيمان .. وإشكاليات لم
تنته بعد
وإذا انتهت .. أكون من ضمن الخاشعين في
الصف الأول
المسبحين بأناشيد الإثم والبراءة
الحاملين أبجدية التنوير .. وقلب لحمي
ينبض بالحرية والنضال والحـُب
وها صوت سقراط يزلزل أركان كياني :
" أيها الأثينيون!إذا
شئتم أن تبرئوني على أن أهجر بحثي عن الحق فسوف أقول لكم شكراً. ولكنني أؤثر
طاعة الله الذي حملني هذا العبء على طاعتكم, ولن أتراجع عن اشتغالي بالفلسفة،
مادام في جسمي عرق ينبض. سأواصل أداء رسالتي ، وسأدنو من كل من يصادفني
لأقول: ألا تخجل من إنكبابك علي طلب المال والجاه ، وانصرافك عن الحق والحكمة؟
إنني لاأعرف أيها السادة طعم الموت. إنني لا
أخافه. ولعله شئ جميل ، ولكنني واثق بأن هجراني رسالتي شئ قبيح. وأنا أفضل
مايحتمل بأنه يكون جميلا علي ما أنا واثق أنه قبيح!
إنكم ستجدون مني ـ مادمت حيا ـ ناقدا منبها يثابر
علي دفعكم باللوم والإقناع, ويداوم على فحص آرائكم ، ويحاول أن يريكم أنكم
تجهلون ماتتخيلون أنكم تعرفونه. إن الخير الأعظم يبدو لي في بحث تلك الموضوعات
التي تسمعونني أناقشها كل يوم, وأن الحياة لا تستحق أن تعاش إذا لم نقومها بهذا
الحوار "
نعم الحياة لا تستحق أن تـُعاش إلا بهذا النوع من الحوار ..
بهذا النوع من الإستفهام .. بهذا النوع من الأحلام
ما أشبه اليوم بالبارحة .. يا سقراط
الإيمان والعقل .. الإجماع والتفرد .. والطاعة والتمرد ..
الترهيب الفاشل والإغراء الفاشل ..
شجرة الحياة وشجرة المعرفة ..
النقل والعقل
وجنة الإجابات المـُلقنة ، جاهزة الصـُنع من أيدي لا تجيد سر الطهي
واللجوء الدائم والرخيص للقولبة والتعليب والمواد الحافظة من التبديل
والتأويل والتحريف
حيث شهب العقل واستفهاماته الطازجة الساخنة .. الشائكة المـُربكة لمن
تـَعَّـود السمع والطاعة وإذعان العبيد .
إشكاليات جنة الإيمان .. ونار العقل
فردوس الإجابات .. وهاوية الأسئلة
ثوابت الكون .. وثوابت الصواب .. وثوابت الأمة نموذج الإجابة الأزلي
تواجه كل لحظة النسبي المـُتغير المتحرك المتطور ، الذي يهوى إرباك العادي
والمألوف
وعرقلة خطواته الرتيبة والمـُملة والمبتذلة بالدهشة المباغتة
ومفاجئة التجريب وإعادة صنع الأشياء لتصبح شيئاً جديداً .. حلم جديد
أبجدية جديدة .. وعالم جديد .
والعجب العـُجاب أن الثابت عندما تضعه تحت المجهر تجده راسخاً وغارقاً حتى
النخاع في بحر الرمال المتحركة !
والمتغير تجده منتصب القامة .. مرفوع الهامة لأن قدماه راسية على صخرة
العلم والمنطق
العجب العـُجاب أن الساحر يسكن المعبد ..
والديكتاتور متربع على عرش صناديق الانتخابات الزجاجية الشفافة ..
والفيلسوف منفي خارج غرفة صـُنع القرار
يتفوه بلآليء لحوارييه في ابن رشد أو منتدى حوار المصريين !
وها جاليليو يبعث لصديقه كبلر :
عزيزي كبلر، ماذا نقول
في المذكورين هنا، الطافحين بعناد الأفعى، الذين يرفضون بعناد إلقاء نظرة سريعة
من خلال التلسكوب؟
كيف نحلل هذا الأمر؟
هل نضحك أم نبكي ؟
نضحك حتى البكاء يا جاليليو .. فالسخرية
كما قال فولتير تزيدنا صموداً
ما أشبه اليوم بالبارحة يا جاليليو
فالقطيع والأكثرية والإجماع .. حجارة
رجم تواجه كل من يمسَك في ذات فعل التفرد
من يجتهد فيـُبدع أو يبتدع
يصبح إبداعه ضلالة .. تفرده ضلاله
كل من يوسوس له شيطان عقله بالقفز فوق
الخطوط الحمراء .. بالغوص في المسكوت عنه
بالرقص فوق الألغام .. يخـَّون أو
يـُكـَفر يا جاليليو
والآن تختار إما أن تتوب .. وتصبح ترس
من تروس القطيع .. رقم في الحشد
ورقة ذابلة من أوراق شجرة توت ..
ورقة خاسرة من أوراق اليانصيب ..
أو أن تموت كمـُرتد وضيع
لا .. لا .. أتوب أنا، جاليليو جاليلي، ابن المتوفى فينسنزو جاليلي، من فلورنتين، وأبلغ من العمر 70 عاما،
الماثل شخصياً أمام هذه المحكمة، راكعاً
أمامكم، أيها السادة الكرادلة الموقرين والمعظمين، المحققين ضد كل هرطقة وفسق في الجمهورية كلها، رافعاً أمام عينيّ
ولامساً بيديّ، الأناجيل المقدسة --
أقسم أنني كنت دوماً، والآن، وبعون اللـه في كل أوان في المستقبل، أقبل كل ما تثبته، وتبشّر به، وتعلمه الكنيسة الرومانية الرسولية الكاثوليكية المقدسة. وحيث أنه تبعا للوصية التي مَنّها عليّ قضائيا،
هذا المجلس المقدس، والتي تقوم على
وجوب أن أترك نهائياً، الضلالة القائلة بأن الشمس هي مركز العالم ولا تتحرك، وأن الأرض ليست هي مركز العالم وهي تتحرك، وأنني
لن أثبت، أو أدافع عن، أو أعلّم بأي شكل من الأشكال، كتابة أو لفظا، التعليم
المذكور، وأنه تم تنبيهي بأن هذا التعليم هو
مناقض للكتب المقدسة -- أنا كنت قد كتبت وطبعت كتابا شرحت فيه هذا التعليم المشجوب، واستدللت بحجج مقنعة لصالحه، بدون أن
أقدم أي حلولا أخرى، ولهذا السبب حكم عليّ المجلس المقدس بالهرطقة الشديدة، اذ
أنني أثبتّ واعتقدت بأن الشمس هي مركز العالم وغير متحركة، وأن الارض ليست المركز
وتتحرك.
لهذا، ورغبة مني في إزالة هذه الشكوك القوية من عقول عظمتكم، وكل المسيحيين المؤمنين، الشكوك المفهومة والتي أقدّر سببها، فأنا هنا
بقلب مخلص وإيمان صادق أستنكر و أشجب و ألعن كل هذه الضلالات المذكورة والهرطقات،
وبشكل عام كل ضلالة أو بدعة مهما
كانت، التي تخالف الكنيسة المقدسة، وأقسم أنني في المستقبل لن أقول أو أدعم، لفظياً أو خطياً، أي شيء يمكن أن يؤدي إلى مثل هذه
الشكوك بي، ولكن اذا عرفت عن أي هرطوقي، أو
أي شخص أشك بأنه مهرطق، سوف أشجبه لهذا المجلس المقدس، أو المحققين أو الجهة الأمثل للمكان الذي أتواجد فيه حينها. وإضافة
إلى ذلك، أقسم وأعد بأن أوفي وأنجز كل
الكفّارات التي ألزمني بها هذا المجلس المقدس، أو التي سيلزمني بها في المستقبل. وفي حالة مخالفتي (لا سمح اللـه) لأي من
هذه الوعود و العهود والقَسَم، سأسلم
نفسي إلى كل الآلام و الجزاءات التي تطبقها وتعلنها الدساتير والقوانين المقدسة، جملة وتفصيلا، ضد أي جريمة كهذه. لذا
أعنّي يا اللـه، ويا أناجيله
المقدسة، التي ألمسها بيديّ.
أنا، المدعو جاليليو جاليلي، استنكرت وحلفت ووعدت وألزمت نفسي كما ورد أعلاه. ولشهادة هذه
الحقيقة، قمت بكتابة هذه الوثيقة
بيدي لتسجيل استنكاري، وقمت بتلاوتها كلمة كلمة في روما، في دير مينرفا. "
أتوب عن السؤال .. عن البحث
.. عن الشك .. عن العقل
أتوب عن إنسانيتي
توبة غير مخلصة يا جاليليو
.. فأمام القهر لا تملك غير النفاق
وأمام السيف .. يقول بعض
الحكماء : " اظهر ما لا تبطن .. واجعل ما في القلب في القلب .. " وما
خفي كان أعظم
فطبقة الكهنوت .. والأخ
الأكبر .. والقلم الأحمر
وظل الله على الأرض ..
الحاكمين بإسمه
والمالكين الشرعيين لمفاتيح
الجنة والنار ..
هم المتربعون على عرشه الآن
حاملين إيمان بلا تاريخ
بلا ماض ولا حاضر ولا
مستقبل
سرمدي " أزلي أبدي
" ليس له أسباب صعود
ليس حداثي .. غير مخلوق هو
أما عقلك فتاريخي جداً ..
له ماض نعرفه
وحاضر نمسك به .. ومستقبل
نلده بمخاض التجربة والبحث والإكتشاف
ولذلك هذا النوع من الإيمان
يـتبع .. يـُلقن .. يورث
ولكن العقل لا يورث .. لا
يلقن ..
الايمان جبار شامخ ..
متعجرف لا يخطأ .. متكبر يتوهم أنه يعرف كل شيء .. كلي العلم
أما العقل فمتواضع جداً ..
يجهل فيبحث .. يخطيء ويصيب
يشك ليؤمن .. إيمان قابل
للشك العادل والنزيه
لا يهاب الأسئلة .. ولا
التجريب
ولا رواية مهما كانت جرأتها
.. ولا فيلم مهما كان بريقه
ولا ترتعش أعمدة كيانه من
نور الشمس .. ولا من ظلال جمال القمر
وفي النهاية صلاة الحلاج
وصلاتي :
نحن بشواهدك نلوذ، وبسَنا
عزتك نستضيء، لتبدي ما ثبت من شأنك،
وأنت الذي في السماء عرشك، وأنت
الذي في السماء إله وفي الأرض إله،
تجلَّى كما تشاء مثل تجلِّيك في مشيئتك كأحسن صورة ولا صورة،
والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم
والبيان والقدرة والبرهان،
كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند عيانك ذاتي،
وأظهرت معراج علومي بعجزي،
إني أُخِذتُ وحُبِست وأُحضِرت وصُلِبت وأُحرِقت واحتملتْ الزياداتُ
أجزائي،
وإن ما بقي في معناي متخلياً أعظم من زوال الراسيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق